سليمان الشيخ: غريبٌ في المنافي، مُقيمٌ في ظلالِ الوطن
محمود كلّم
كاتب فلسطينيهو ابنُ صفُّورية، الزهرةُ التي اقتُلِعَت من جذورها، واحترقت أوراقُها في ريحِ النكبة، وابنُ المخيَّمات التي لم تكن سوى كَفَنٍ من الخيامِ يلفُّ أملَ اللاجئين، وجرحٍ مفتوحٍ في ذاكرةِ وطنٍ يأبى النسيان.
في المنافي، حيثُ لا سماءَ تُخَيِّمُ على الحُلمِ، ولا أرضَ تحتضنُ الأمل، كان سليمان الشيخ يسير مثقلاً بجراح الوطن، غريباً في أرضٍ لم تكن يوماً أرضه، لكنه حملها في قلبه كما يحمل الليل أسراره.
كان شجرةً اقتُلِعَت من جذورها، لكن الريح لم تستطع أن تكسرَها، وكان نجماً هوى عن سماء الوطن، لكنه ظلَّ يضيءُ في ليل المنافي.
عاش كطائرٍ جريحٍ، يبحث عن عشِّه المفقود. حملَ فلسطين في عينيه، كما تحمل الأمُّ طفلها، يخشى أن يُسرَق منها، أو أن يضيعَ بين الدروب.
سليمان الشيخ، صوتُ المخيّم وأملُ اللاجئين، قاصٌّ لم يكتب بالحبر، بل بالدمع، ولم يَروِ الحِكايةَ، بل عاشها جرحاً لا يلتئم.
وُلد في صفّورية، البلدة التي كانت خضراءَ كالأمل، فأضحت رماداً كالألم. شُرِّد طفلاً، فوجد في المخيمات مهداً للمعاناة، وفي عيون المهجّرين مرايا للحزن والاشتياق.
كان الغريب الحاضر، والمقيم الراحل؛ فلا الغربةُ احتوته، ولا الوطنُ ضمَّه. عاش مشتّتاً بين أملٍ ضائع، وحُلمٍ صامد، بين الحنينِ القاتل، والوجعِ العابر.
كان قلبُه سفينةً تتلاطمها أمواجُ المنافي، تبحث عن شاطئٍ تستقر فيه، لكن الشاطئ ظلَّ بعيداً، والمركبُ عالقاً في بحر الترحال.
في كلماته، تنهيدةُ لاجئ، وصوتُ جُميزةٍ اقتُلِعَت، لكنها أبت الموت.
كتب ليقاوِم النسيان، كما يواجه البحر نحت الصخور، وكما يقاوم القلب مرارة الفقد. أمسك القلمَ كما يمسك الجريحُ ضمادَه، فكان الحرف أنيناً، وكان الورق جرحاً مفتوحاً.
كان شاعراً لا يكتب القصيدة، بل ينزفها، وأديباً لا يروي الحكاية، بل يعيشها في دمه وأضلعه. كانت كلماته كالأجراس، توقظ في ذاكرة اللاجئين الحنين، وتذكّرهم بأن الوطن لم يغب، وإن غابوا عنه قسراً.
رغم المنافي، لم يُغلق قلبه باباً للحُلم، ولم يُطفئ في روحه قنديل الأمل. ظل يحمل قضيته في كلماتٍ مبلّلةٍ بالشوق، موشُومةٌ بوجعِ الانتظارِ. كان يرى فلسطين في كل شيء: في دمعة طفلٍ يتشبّث بثوب أمّه خوفاً من الضياع، في زفرة مُسنٍّ يحدّق في الأفق كأنّه يبحث عن الماضي، في موجةٍ تصطدم بصخور يافا وكأنها تنادي المهاجرين: "عودوا!"
وحين أغمض عينيه للأبد، لم يكن قبرُه هناك، حيث كان القلب يحلم، بل في أرضٍ غريبةٍ لم يَرِدها مَثوىً أَخِيراً، لكنه نام قريرَ العين، فقد علم أن الوطن الذي سكنه سيظل يسكن كلماته، وأن كلماته ستظل تسكن ذاكرة اللاجئين.
سلامٌ على رُوحٍ لم تُفارق فلسطين، وإن غادرتها الأقدامُ، وسلامٌ على جسدٍ دُفن في المنفى، لكن كلماته عادت إلى أرض الوطن، تحفر اسمه في ذاكرة الأجيال.
رحل أبو خلدون، لكن كلماته بقيت، شاهدةً على نكبةٍ لم تنتهِ، ووطنٍ لم يُنسَ، وحقٍّ لن يضيع! كان رجلاً حمل فلسطين بين ضلوعه، فلم يمت، بل صار جزءاً من ذاكرة الأجيال، يردّدون اسمه كما يردّدون أسماء القرى التي دُمِّرَت، والمنازل التي احترقت، والمفاتيح التي ما زالت تنتظر الأبواب.
سلامٌ عليكَ يا أبو خلدون، وعلى كلِّ لاجئٍ ينتظرُ الفجرَ الذي لم يأتِ... ولكنَّهُ سيأتِي!
أضف تعليق
قواعد المشاركة