ناقةُ صالح: معجزةٌ ربانيةٌ وعبرةٌ أبديةٌ
محمود كلّم
كاتب فلسطينيإنَّ القصصَ القرآنيَّ ليس مجرّدَ رواياتٍ تُسردُ للتسليةِ أو المعرفةِ التاريخيةِ، بل هو رسائلُ إلهيةٌ تحملُ العبرةَ والموعظةَ لكلِّ من يتأمّلُها. ومن بينِ هذهِ القصصِ البديعةِ التي تجسّدُ معاني الإيمانِ والعصيانِ، وقوةِ اللهِ وقدرتِه، قصةُ ناقةِ النبيِّ صالح عليهِ السلامُ.
هذهِ القصةُ هي شاهدٌ حيٌّ على الصراعِ الأزليِّ بين الحقِّ والباطلِ، وبين الإيمانِ والعنادِ. إنّها معجزةٌ ربانيةٌ نطقت بلسانِ الحالِ لتؤكّد قدرة اللهِ، وتُذكّرَ الإنسان بمحدوديةِ قوتهِ وضعفِ إرادتهِ أمام جبروتِ الخالقِ.
في هذهِ القصةِ، نرى كيف أنَّ اللهَ سبحانهُ أرسل نبيَّهُ صالحاً عليهِ السلامُ إلى قومِ ثمود، وأيّدهُ بمعجزةٍ عظيمةٍ، لكنَّهم بدل أن يؤمنوا ويفوزوا برحمةِ اللهِ، تمادوا في كفرِهم، فأصابهم العذابُ.
كان قومُ ثمود يعيشون في منطقةِ الحِجرِ، وتميّزوا بقوتِهم الكبيرةِ التي سخّروها في نحتِ البيوتِ من الصخورِ الصلبةِ، ما جعلهم يُصابون بالغرورِ والعنادِ، ويظنّونَ أنهم قادرون على مواجهةِ أيِّ خطرٍ.
جاء النبيُّ صالح عليهِ السلامُ يدعوهم إلى عبادةِ اللهِ وحدَهُ وتركِ عبادةِ الأصنامِ، وأقام عليهم الحجج والبراهين، لكنّهم أصرّوا على كفرِهم وطالبوه بمعجزةٍ تثبتُ صدقَهُ.
استجاب اللهُ لدعاءِ صالح، فأخرج لهم ناقةً عظيمةً من صخرةٍ صماءَ، وهو أمرٌ يتجاوزُ قوانين الطبيعةِ. كانت الناقةُ آيةً باهرةً تشهدُ على قدرةِ اللهِ، وكان لها نظامٌ خاصٌّ في الشربِ، إذ شُرِعَ لقومِ ثمود أن يشربوا من الماءِ يوماً وتتركُ الناقةُ لتشرب وحدها يوماً آخر.
رغم وضوحِ الآيةِ وإعجازِها، إلا أنَّ قوم ثمود لم يتخلوا عن كفرِهم.
بدلاً من الإيمانِ، دبّروا مكيدةً لقتلِ الناقةِ بتحريضٍ من أشقى القومِ. عقروا الناقة بوحشيةٍ وتحدّوا أمر اللهِ صراحةً.
قالَ تعالى:
"فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ"
(سورة الأعراف: 77)
لم يكتفوا بذلك، بل ازدادوا جرأةً وقالوا لصالح:
"ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ"
(سورة الأعراف: 77)
بعد عقرِ الناقةِ، أنذرهم صالح بعذابٍ قريبٍ.
في صباحِ اليومِ الثالثِ، أرسل اللهُ عليهم صيحةً مدمّرةً أفنتهم تماماً. كانوا مثالاً على أنَّ الكفر والطغيان لا يمرّانِ دون عقابٍ.
دروسٌ وعِبرٌ من القصةِ
1. الإيمانُ قوّةٌ: الناقةُ كانت معجزةً تُظهرُ ضعف الإنسانِ أمام قدرةِ اللهِ، ومع ذلك كفر قومُ ثمود بسببِ عنادِهم.
2. الاستجابةُ لدعوةِ الحقِّ: رفضُ الحقِّ هو سببُ الهلاكِ، كما حدث مع قومِ ثمود.
3. العاقبةُ للمكذّبين: العنادُ والتحدّي يؤدّيانِ دائماً إلى الخسرانِ.
4. حكمةُ اللهِ في المعجزاتِ: كلُّ معجزةٍ تأتي لإقامةِ الحجّةِ وإزالةِ الشكِّ، فلا عذر للمكذّبين بعدها.
قصةُ ناقةِ النبيِّ صالح عليه السلامُ ليست مجرّدَ حكايةٍ من الماضي، بل هي رسالةٌ تتكرّرُ عبر الأزمانِ.
إنها تُذكّرُ كلَّ إنسانٍ بأنَّ الإيمان هو النجاةُ الوحيدةُ، وأنَّ التمرّدَ على أوامرِ اللهِ لا يؤدّي إلا إلى الخسرانِ.
لقد أراد اللهُ من هذهِ القصةِ أن يُعلّمنا أنَّ الكِبرَ والعنادَ يجعلانِ الإنسان أعمى عن رؤيةِ الحقِّ حتى لو كان واضحاً أمام عينيهِ.
...............
المراجعُ:
1. القرآن الكريم:
سورة الأعراف (آيات 73-78).
سورة هود (آيات 61-68).
سورة الشعراء (آيات 141-159).
سورة الشمس (آيات 11-15).
2. كتب التفسير:
تفسير ابن كثيرٍ: توضيحٌ مفصّلٌ للآياتِ المتعلقةِ بقصةِ ناقةِ صالحٍ.
تفسير الطبريِّ: شرحُ سياقِ القصةِ ومعاني الآياتِ.
3. كتب السيرةِ والتاريخِ:
"قصص الأنبياءِ" للإمامِ ابن كثيرٍ: يتضمنُ سردًا مفصلًا لقصةِ النبيِّ صالحٍ وقومِ ثمودَ.
"البدايةُ والنهايةُ" للإمامِ ابن كثيرٍ: يشرحُ الأحداثَ التاريخيةَ التي تتعلقُ بقصةِ صالحٍ وثمودَ.
4. أبحاثٌ ومقالاتٌ حديثةٌ:
يمكنُ الرجوعُ إلى دراساتٍ عن موقعِ مدائنِ صالحٍ في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ وآثارِها، حيث يُعتقد أن قومَ ثمودَ عاشوا هناك.
أضف تعليق
قواعد المشاركة