محمود سعيد: غيابُ الصقرِ الذي أسكتت صوتهُ أوجاعُ الأرضِ!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي سماءِ الفنِّ العربيِّ، كان محمود سعيد بمثابةِ الصقرِ الذي يرفرفُ بجناحيهِ بينَ السحبِ، يبعثُ الضوءَ ويؤرخُ للأيامِ بترانيمِ صوتهِ الدافئِ.
وُلدَ في مدينةِ يافا يوم الاثنين 15 ديسمبر 1941، تلك المدينةِ الفلسطينيةِ التي سلبها الاحتلالُ، لكن روحها بقيت حيةً في قلبهِ حتى آخرِ أيامهِ.
غادرنا في 30 ديسمبر 2014 في مدينةِ بيروت بعد صراعٍ طويلٍ مع المرضِ، لكن غيابهُ ترك فراغاً لا يمكنُ للزمنِ تعويضهُ.
كان محمود سعيد أحد أبرزِ النجومِ في تاريخِ الفنِّ العربيِّ، ولقبَ بـ "صقرِ الشاشةِ العربيةِ" لأنهُ تركَ بصمةً لا تُنسى في قلوبِ عشاقهِ. في البدايةِ، كان الفنانُ الشابُّ يخطو خطواتهِ بحذرٍ في عالمِ الفنِّ، لا يعرفُ سوى جدرانِ التحدي والمثابرةِ.
كانت بداياتهُ في برنامجٍ تاريخيٍّ بعنوانِ "سر الغريب" الذي شكلَ محطةً انطلاقهِ، ليكتشفهُ الجمهورُ بعدها في مسلسلِ "التائه"، الذي اقتُطفَ من الروايةِ العالميةِ الشهيرةِ "مرتفعاتِ وذرينغ". كانت تلكَ البدايةُ الحقيقيةُ لمشوارهِ الفنيِّ، الذي أخذ شكلاً أكثر وضوحاً في مسلسلهِ البدويِّ الشهير "فارس ونجود"، حيثُ تألقَ إلى جانبِ المطربةِ سميرة توفيق في عامي 1971 و1972.
صوتهُ كان فريداً من نوعهِ.
امتلكَ قدرةً نادرةً على إغناءِ العملِ الفنيِّ بالكلمةِ الجميلةِ، فالعربُ يعشقونَ الصوتَ والكلمةَ في آنٍ واحدٍ. كانت كلماتهُ تدخلُ إلى أعماقِ قلوبنا، وتنطقُ بمشاعرنا التي نحتفظُ بها في الصدورِ.
ومن بينِ الأبياتِ الشعريةِ التي رددها يوماً على مسامعنا، قالَ: "ودعتهُ وبودي لو يودعني صفوَ الحياةِ، وأني لا أودعهُ، وكم تشفعَ فيَّ أن لا أفارقهُ، وللضرورةِ حالٌ لا تشفعهُ، وكم تشبثَ بي يومَ الرحيلِ ضحى، وأدمعي مستهلاتٍ وأدمعهُ."
لقد كان في طيّاتِ هذهِ الكلماتِ حزنٌ عميقٌ، وكأنما يترجمُ آلامهُ وأحزانهُ الخاصةِ، وتوقهُ لآخرِ لحظةٍ من الوداعِ.
في عامِ 1961، كانت أولى إطلالاتهِ البدويةِ في تلفزيونِ لبنان، حيثُ أسندَ لهُ المخرجُ رشيد علامة جملةً بدويةً وحيدةً في برنامج "كانَ يا ما كان"، وقد كانت تلكَ الجملةُ: "إن ما تريدونَ النومَ غيركم يريد ينام". وكانت تلكَ الجملةُ بدايةً لمشوارٍ طويلٍ في عالمِ الدراما.
لم يكن يعرفُ أن تلكَ البدايةَ البسيطةَ ستتحولُ إلى سفرٍ طويلٍ من النجوميةِ والإبداعِ.
كان محمود سعيد إنساناً بكلِّ ما تحملُ الكلمةُ من معنى.
كان يحبُّ طائرَ الحسونِ في الصباحِ والعصرِ، ويعشقُ صوتَ موجِ البحرِ الذي يلاطفُ شواطئَ لبنان، بينما كان يخافُ من صوتِ السكونِ الذي كان يرافقُ لحظاتِ الوحدةِ.
أحبَّ ابنتهُ الصغيرةَ "لنا" حباً شديداً، وكان يبكي من أجلها في أوقاتِ حزنهِ. ولعلَّ أشدَّ اللحظاتِ قسوةً في حياتهِ كانت بعدَ النكبةِ في عامِ 1948، حيثُ اضطرَّ للانتقالِ مع والدتهِ إلى مدينةِ صيدا في جنوبِ لبنان، هاربينَ من جحيمِ الاحتلالِ.
كان متأثراً بصوتِ المطربِ عبد الحليم حافظ، الذي كان يعشقهُ، وكان يحلمُ دائماً بالعودةِ إلى القدس، تلكَ المدينةِ التي أحبها. ورغمَ ألمهِ، كان يحملُ في قلبهِ الأملَ والتطلعَ إلى مستقبلٍ أفضلَ لوطنهِ وشعبهِ.
شاركَ في فيلمِ "الرسالة"، بعدَ أن اختيرَ لهُ دورُ خالد بن الوليد، وهو الدورُ الذي كان يعكسُ ملامحَ شخصيتهِ الفذةِ والبطوليةِ في الحياةِ وفي الفنِّ.
كان صاحبَ قلبٍ حنونٍ، يحملُ التاريخَ العربيَّ في قلبهِ، ويعشقُ اللغةَ العربيةَ كما يعشقُ نبضَ الحياةِ.
كان الأبَ الذي يحبُّ أولادهُ بكلِّ ما يملكُ من قلبٍ، وهم: ناهد، عزت، ياسر، مريم، يوسف، ولنا، وكان دائماً ما يهتمُّ بهم ويشعرُ بحبٍّ عميقٍ تجاههم، لكنه مثلما كان يبدعُ على الشاشةِ، كان يحملُ عبئاً ثقيلاً في قلبهِ من أجلهم.
كانت علاقتهُ بابنتهِ "لنا" مميزةً بشكلٍ خاصٍ، إذ كان يذرفُ الدموعَ لأجلها في لحظاتِ ضعفهِ، فحبهُ لها كان حلاً سحرياً لكلِّ حزنهِ.
رحل، لكن صوتهُ وكلماتهُ ستظلُّ حيةً في قلوبنا، كما ستظلُّ ذكرياتهُ محفورةً في ذاكرةِ كلِّ من عاشوا معهُ تلكَ اللحظاتِ الجميلةِ على الشاشةِ. نحن الذين سمعنا صوتهُ في "فارس ونجود"، وفي "سر الغريب"، وفي فيلم "الرسالة"، لن ننساك أبداً يا صقرَ الشاشةِ العربيةِ، لأن غيابك هو غيابُ لحظاتٍ لا تعودُ، لكنه في الوقتِ نفسهِ يشهدُ على فنانٍ لم تنطفئ شعلتهُ أبداً.
رحيلهُ تركَ فراغاً في قلوبِ أولادهِ وعشاقهِ، ولكنه تركَ أيضاً إرثاً في عالمِ الفنِّ العربيِّ.
سيبقى محمود سعيد، مهما مضتِ الأيامُ، "صقرَ الشاشةِ العربيةِ"، الصوتُ الذي لم يتوقف أبداً عن إرسالِ الأملِ، والحزنِ، والألمِ في قلبِ كلِّ من استمع إليهِ.
أضف تعليق
قواعد المشاركة