أنيس صايغ: الشُّعلةُ التي لا تنطفِئُ !
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي سماءِ الكِفاحِ الفلسطينيِّ، كان أنيس صايغ نجمةً أضاءت عتمة المنافي، وقنديلاً أشعلَ ظلامَ النِّسيانِ بحروفِهِ التي تنبُضُ وطناً وأملاً.
لم يكن مجرَّد إنسانٍ، بل كان سيمفونيَّةً من العزمِ والإصرارِ، عزفتها الأيَّامُ على وترِ الشَّوقِ والحنينِ لفلسطين.
كان حضورُهُ أشبه بمقطوعةٍ موسيقيَّةٍ تبدأ بلحنٍ هادئٍ، ثم تتصاعدُ نغماتُها لتُشعِلَ القلوبَ، وتبعثَ الحياةَ في الأرواحِ المُرهقةِ.
طبريا، تلك البحيرةُ الحنونُ التي شهدت طفولتهُ، كانت مفتاح لحنِهِ الأوَّلِ.
هناك، على ضفافِها، تعلَّم أن يقرأَ الأرض كقصيدةٍ، وأن يُصغيَ لصوتِ الحجارةِ وهي تحكي حكاياتِ الأجدادِ.
كانت طبريا بالنسبةِ له أشبهَ بكمانٍ قديمٍ يعزفُ لحنَ الحنينِ كلَّما لامستهُ نسائمُ الغربةِ.
حملها في قلبِهِ كما يحملُ العاشقُ صورة محبوبتِهِ، وظلَّ وجهُها الصَّبوحُ يطلُّ عليهِ في كلِّ لحظةٍ، حتَّى وهو بعيدٌ عنها.
كم مرَّةً كتبَ عن طبريا وهي ترتدي ثوبَ العروسِ، تنتظرُ أبناءَها ليعودوا؟ كانت كلماتُهُ كالأغاني الشَّعبيَّةِ التي يُنشِدُها الفلَّاحون في الحقولِ، تحملُ وجع الأرضِ ودفءَ الأملِ. حتَّى عندما كان اليأسُ يُخيِّمُ على القلوبِ، كانت طبريا في كتاباتِهِ مرآةً تعكسُ حلمَ العودةِ، ولو بعد حينٍ.
حروفُهُ كانت أوتاراً تنبُضُ بالحياةِ، تحملُ بين ثناياها صوتَ الجليلِ، وأنينَ المُخيَّماتِ، وضحكاتِ الأطفالِ الذين لم يعرفوا سوى خيمةِ الوطنِ المؤقَّتةِ.
كان يؤمنُ أنَّ الكلمةَ ليست مجرَّد صوتٍ، بل هي وترٌ في سيمفونيَّةِ النِّضالِ، وصوتٌ لا يخفُتُ إلَّا ليعود أقوى.
في بيروت، حيثُ عاش جلَّ سنواتِهِ، كان يحملُ وطنَهُ معهُ كعازفٍ يحملُ كمانَهُ. لم تُفارِقهُ فلسطين، ولم تنقطع أغنيتُها عن وجدانِهِ.
كان صوتُهُ في المنفى أشبهَ بصوتِ البحرِ حين يلتقي بالشَّاطئِ، متلاطِماً، صاخباً، لكنَّه مليءٌ بالشَّوقِ للهدوءِ الذي لا يجدُهُ إلَّا على ضفافِ الوطنِ.
كان يرى في الغربةِ قسوةً تُشبهُ قسوةَ العزفِ على وترٍ مشدودٍ، لكنَّه كان يعرفُ أنَّ هذهِ القسوةَ هي التي تصنعُ الموسيقى الأجملَ. كان يعيشُ على إيقاعِ الأملِ، ويوقنُ أنَّ العودة ليست حلماً، بل حقيقةً تنتظرُ لحظة التحقُّقِ.
في زمنٍ طغت فيهِ أصواتُ المصالحِ والمساوماتِ، ظلَّ أنيس كقائدِ أوركسترا يرفضُ أن يتبعَ الإيقاعَ الخاطئَ.
كان يؤمنُ أنَّ فلسطين لحنٌ لا يقبلُ التَّحريفَ، وأنَّ النغمةَ الصَّحيحةَ هي التي تقولُ: "كاملُ التُّرابِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ."
لم ينحنِ يوماً لموجاتِ اليأسِ، ولم يُساوِم على المبادئِ التي عاش لأجلِها.
كان يعرفُ أنَّ العزف على أوتارِ الحقيقةِ قد يكونُ مؤلماً، لكنَّه كان مستعدّاً لتحمُّلِ الألمِ، لأنَّ النَّغمَ الذي يخرجُ منهُ هو الذي يبقى خالداً في ذاكرةِ الشُّعوبِ.
حينَ رحلَ أنيس صايغ، لم يكن رحيلُهُ صمتاً.
كان أشبهَ بنهايةِ مقطوعةٍ عظيمةٍ تتركُ الجمهورَ في حالةٍ من التَّأمُّلِ العميقِ.
جسدُهُ قد غابَ، لكنَّ موسيقاَهُ تظلُّ تعزفُ في كلِّ قلبٍ فلسطينيٍّ.
كلماتُهُ تحوَّلت إلى أغانٍ يُردِّدُها الأطفالُ في أزقَّةِ المُخيَّماتِ، وألحانٍ يستمدُّ منها الحُفاةُ قوتهم وهم يسيرونَ نحو بقعةِ الضَّوءِ التي أشارَ إليها أنيس دوماً.
لقد كان شخصيَّةً قريبةً من قلوبِ النَّاسِ، بصدقِها وبساطتِها، عاش حياتهُ مُلتزِماً بقيمِهِ ومدافعاً عن مبادئِهِ دون تنازلٍ.
أنيس صايغ لم يكتفِ بالتَّأليفِ والبحثِ، بل كان حريصاً على توجيهِ الشَّبابِ، إذ آمنَ بأنَّهم الأساسُ في استمراريَّةِ النِّضالِ الفلسطينيِّ. عبرَ محاضراتِهِ ولقاءاتِهِ، استطاعَ أن ينقلَ قضيَّتَهُ وروحهُ النِّضاليَّةَ إلى الأجيالِ الشَّابَّةِ، ويحفِّزهُم ليكونوا جزءاً من مسيرةِ الحفاظِ على الذَّاكرةِ الوطنيَّةِ.
نَمْ مُطمئنّاً أيُّها القائدُ العازفُ، فقد تركت لنا لحناً لا يَصدأُ، ووتراً لا ينقطعُ.
سنظلُّ نعزفُ سيمفونيتكَ، نُغنِّيها بصوتِ الأرضِ والحقِّ.
لأنَّكَ لم تكُن مُجرَّد اسمٍ، بل كُنتَ أنشودة الحُرِّيَّةِ الَّتي لا تنتهي.

أضف تعليق
قواعد المشاركة