نعمات قدورة: حينَ يَكتُبُ الحُزنُ تاريخاً!

منذ 9 أشهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

في قلبِ الألمِ وأوجاعِ الفقدِ، كانت نعمات قدورة تسيرُ مثقلةً بجراحٍ لا تندملُ وذكرياتٍ لا تموتُ. من سحماتا في الجليلِ إلى مخيماتِ الشتاتِ، عاشت حياةً لم تمنحها سوى الألمِ، ولم تترك لها إلا بقايا حلمٍ وطنٍ مسلوبٍ. رحل عنها زوجُها أحمد شهيداً، تبعَهُ ابنُها عصمت، لتصبحَ وحيدةً في مواجهةِ حزنٍ يحفرُ في روحِها عميقاً كلَّ يومٍ. نعمات، تلكَ المرأةُ التي كتبَ الحزنُ تاريخَها، ظلت واقفةً رغم أنفِ الرياحِ، تحملُ في قلبِها وطناً وأحبّةً لم يعد لهم سوى الذكرياتِ وصورٍ لا تفارقُها. هذه حكايةُ امرأةٍ لم يترك لها الموتُ سوى الأسى، لكنها أبت أن يُسقطَها الانكسارُ، فقد كانت تحملُ قلباً من فولاذٍ وروحاً لا تنكسرُ، رغمَ أنَّ الحياةَ جرّعتها كأسَ الحزنِ أكثرَ من مرةٍ.

 

كلَّ لحظةٍ في حياتِها كانت مليئةً بالأوجاعِ، إلا أنَّ أشدَّ تلكَ اللحظاتِ قسوةً كان يومُ استشهادِ زوجِها أحمد في تلِّ الزعترِ. في ذلك اليومِ، كان قلبُها قد فارقَ الحياةَ، وحملَ جرحاً لا يمكنُ أن يلتئمَ مهما مضتِ السنواتُ.

تذكرتهُ في كلِّ لحظةٍ، في كلِّ زوايا البيتِ الذي كان ملاذاً للحبِّ، وأصبحتِ الجدرانُ شاهدةً على غيابِهِ.

ورغم أنَّ الحروبَ قد أخذتِ الكثيرَ، فإنَّ أكبرَ فاجعةٍ تلقتها كانت حينَ سقطَ أحمد شهيداً.

في كلِّ دمعةٍ سالت من عينِها، كانت تذرفُها على أحلامِها التي كانت تُنسَفُ واحداً تلو الآخرِ. كانت تُردِّدُ في نفسها أنَّ العزاءَ الوحيدَ هو أنَّ قلوبَهم ستظلُّ حيّةً ما دامت أرواحُهم طاهرةً، ولكنَّها تعلمُ في عمقِ قلبِها أنَّ البُعدَ عنهم كان يقتلُها ببطءٍ.

 

ما إن هدأت هزاتُ قلبِها، حتى جاءَ الحزنُ مرةً أخرى. كان عصمت، ابنُها البكرُ، هو من سلبتِ الحربُ روحَهُ بعد أن ارتقى شهيداً في مخيمِ شاتيلا. تركَ لها ذلك الفراغَ الذي لا يمكنُ لأيِّ كلمةٍ أن تعبِّرَ عنهُ، فكيف يمكنُ للأمِّ أن تتحملَ رؤيةَ حياتِها تتداعى أمامَها؟

كيف يمكنُها أن تقاومَ هذا الموتَ المتنقّلَ الذي لا يفرّقُ بين الأحبّةِ؟

كانت تبكيهُ بصمتٍ، لكنَّ في تلكَ الدموعِ كان يشبعُ قلبَها الوجعَ والحرقةَ.

لم تجد عزاءً في صمتِها، بل كان هذا الصمتُ يغتالُها أكثرَ. كيف يمكنُها أن تتابعَ حياتَها وكأنَّ شيئاً لم يحدث؟

كيف يمكنُها أن تستمرَّ في هذا العالمِ المليءِ بالظلمِ، وقد فقدت كلَّ من تحبُّ؟

 

كلما مرَّتِ الأيامُ، كانت ذكرى أحمد وعصمت تجتاحُ قلبَها، وكلما مرّت ذكرى لحظاتِهم معاً، كانت تزدادُ الحسراتُ وتنهارُ الأحلامُ.

كان أحمد، حينَ عاشت معهُ، يُمثّلُ لها الأملَ، وكان عصمت، حينَ كان في حضنِها، يُمثّلُ لها الحياةَ. واليومَ، أصبحا ذكرياتٍ، وأحلاماً ضاعفَها الوجعُ.

 

كانت تقولُ في نفسها: "أيُّ قوةٍ تستطيعُ مقاومةَ هذا الحزنِ الذي لا ينتهي؟"، ولكنَّها كانت تُدركُ أنَّ المرأةَ التي حملت وطناً في قلبِها، وأهلكت آلامَ اللجوءِ في روحِها، لا يمكنُ أن تنكسرَ. صمدت رغم كلِّ شيءٍ، ولكنَّ كلَّ خطوةٍ كانت بمثابةِ خنجرٍ يُغرسُ في قلبِها.

كانت تعيشُ بين جراحاتٍ متراكمةٍ، بين أسئلةٍ لا تجدُ إجابةً، وبين ذكرياتٍ تمزِّقُها أكثرَ.

 

ومع كلِّ يومٍ يمرُّ، ومع كلِّ ساعةٍ تقضيها في فقدانِ من تحبُّ، كانت تشعرُ أنَّ القلبَ أصبحَ أقلَّ قدرةً على التحمّلِ. كان الخوفُ يعتصرُها كلما فكَّرت في غدٍ جديدٍ، ولكنَّها كانت تعلمُ في أعماقِها أنَّ لا شيءَ يمكنُ أن يعيدَ ما فقدتْهُ. كانت حنجرتُها تختنقُ من الحزنِ، ولكنَّها لا تتركُ أملَها في أن تبقى ثابتةً، مهما كانتِ الرياحُ عاتيةً. كانت تعلمُ أنَّ الفقدَ لا يقتصرُ على الموتِ، بل على كلِّ شيءٍ ضاعَ بين يديها، على وطنِها الذي لا يزالُ بعيداً عنها، على كلِّ الأحلامِ التي انكسرت في معركةِ الوجودِ ، ولكن في كلِّ مرةٍ كان يطغى فيها الحزنُ على قلبِها، كانت ترفضُ أن تستسلمَ. لأنَّها كانت تدركُ، ولو في أعماقِها البعيدةِ، أنَّ الصمودَ هو ما يجعلُها تواصلُ العيشَ.

 

وفي حضرةِ نعمات الإنسانةِ، لا أنسى أبا الطيبِ المتنبي في قولتِهِ: "مَنْ يَهُنْ يَسهُلِ الهوانُ عليهِ، ما لِجُرْحٍ بميْتٍ إيلامُ".

 

كانت تلكَ الكلماتُ ترافقُها في كلِّ لحظةٍ، وكانت تردّدُها حينَ تشعرُ أنَّ الحياةَ قد سرقت منها كلَّ شيءٍ.

 

تظلُّ الذكرياتُ تقاومُ الزمنَ، ولكنَّها لا تنسى أبداً الألمَ الذي تركَهُ استشهادُ الأحبّةِ في قلبِ نعمات قدورة. تبقى دموعُها أصدقَ من كلِّ الكلماتِ، تسقطُ على صورِ زوجِها أحمد، وعلى وجهِ ابنِها عصمت، اللذينَ رحلا تاركَينِ خلفَهما فراغاً لا يُملأ. لا يمرُّ يومٌ دون أن تشتعلَ في قلبِها نارُ الحزنِ، ولا تمضي لحظةٌ إلا وتتذكّرَ تلكَ الوجوهَ التي فارقتها في معاركِ الأرضِ والحريةِ.

كان حبُّهما لها أكبرَ من كلِّ شيءٍ، ولكنَّ الموتَ أخذهُما، ليتركَا في قلبِها جرحاً لا يندملُ أبداً، وسراباً من الذكرياتِ لا يستطيعُ الزمنُ أن يزيلَهُ.

 

ها هي نعمات، تقفُ صامتةً أمامَ كلِّ هذا الفقدِ، لا تملكُ سوى الذكرياتِ التي تعودُ إليها كلما أغمضت عينيها، ولكنَّ رغمَ هذا الحزنِ العميقِ الذي يملأُ روحَها، تظلُّ قادرةً على رفعِ رأسِها، وكأنَّها تقولُ للعالمِ: "إنَّهم رحلوا، لكنَّهُم يعيشونَ في قلبي، في كلِّ خطوةٍ أخطوها، وفي كلِّ نفسٍ أتنفّسُهُ".

فماذا تبقّى من الحياةِ عندما يُصبحُ الموتُ أهونَ من فراقِ الأحبّةِ؟




مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

غزة.. بين نار الإبادة وصمت العالم!

غزة، تلك البقعة الضيقة من الأرض، باتت اليوم مسرحاً لفاجعة لا يشبهها تاريخ. مدينة تُقصف من السماء، وتُحاصر من البحر، وتُستنزف من ال… تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير