عز الدين القسَّام: ملحمةُ الشَّجاعةِ في وجهِ الخُذلانِ!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي صباحٍ رماديٍ دامٍ من أيام نوفمبر عام 1935، كان الوطن يُجرَّد من روحه على مرأى ومسمع العالم، بينما وقف الشيخ عز الدين القسَّام، الرجل الذي لم يكن يحمل سوى إيمانه وسلاحه البسيط، يواجه قوى عظيمة تفوقه عدداً وعتاداً. لم يكن القسَّام رجلاً عادياً؛ بل كان رمزاً لنهضة أمة وضميراً لا يعرف التردد في الدفاع عن الحق.
في تلك اللحظة العصيبة، حين أحكمت قوات الاحتلال البريطاني وعصابات الصهاينة الحصار حوله، خرجت كلماته تشق صمت الموت: "موتوا شهداء، موتوا شهداء، فالشهداء عند ربهم لا يموتون أبداً."
كلمات أشبه بنشيد الخلود، استقرت في أعماق التاريخ كصرخة تمرد وعزيمة لا تلين.
لم تكن كلماته مجرد دعوة للموت؛ بل كانت نداءً للحياة التي لا تزول، حياة الشهداء التي تنبعث مع كل ذكرى، وتضيء دروب الحرية للأجيال القادمة. كان يعلم أن ما يقف أمامه ليس فقط جيشاً أو عصابة، بل منظومة استعمارية كاملة تسعى لاقتلاع شعبه من جذوره. ومع ذلك، واجه مصيره بشجاعة نادرة، معلناً أن الكرامة لا تُشترى، وأن الحق لا يُنتزع إلا بإيمان لا يعرف حدوداً.
تلك المواجهة لم تكن فقط معركة بالنار والرصاص، بل كانت رمزاً لصراع أعمق وأشد مرارة: صراع بين من يحمل الحق ومن يحاول سحقه، بين من يقاتل بروحه ومن يتآمر بماله وسلاحه.
ولكن، كما تُزهر البطولة في أشد اللحظات عتمة، كان هناك خذلان يطفو من الظلال. لم يكن خذلاناً عابراً أو خفياً، بل كان جرحاً عميقاً أدمى قلب القسَّام.
فبينما وقف هو ومجاهدوه يواجهون المحتل، كان هناك من أبناء وطنه من اختار الصمت أو الانسحاب.
لم يكن الأمر مقتصراً على تقاعس الأفراد، بل كان انعكاساً لحالة أمة تشتت بها السبل وضعف بها الحلم.
ومع ذلك، لم يجعل القسَّام هذا الخذلان يقف في طريق عزيمته، بل حوّله إلى شرارة تُذكي نيران الصمود.
كانت تلك الخيانة بمثابة وقود أضاف إلى جذوة شجاعته، ليصير رمزاً للإيمان الذي لا ينهار، حتى حين تنقلب الدنيا عليه.
"فالشهداء عند ربهم لا يموتون أبداً" – عبارة تحمل في طياتها أكثر من وعد بالخلود، إنها فلسفة حياةٍ يتبناها كل من يختار درب المقاومة. لم تكن هذه الكلمات مجرد شعارات تُقال في اللحظات الأخيرة؛ بل كانت تعبيراً عن رؤية القسَّام للنصر: نصر يتجاوز الميدان ليُزرع في القلوب.
وبرغم استشهاده في تلك المعركة غير المتكافئة ضد القوات البريطانية، معركة أحراش يعبد قرب مدينة جنين في فلسطين، في 20 نوفمبر 1935، إلا أن صدى صوته لم يتوقف.
امتد أثره ليصبح وقوداً لكل انتفاضة، وروحاً تسري في شرايين المقاومة، شاهدةً أن الشجاعة ليست حكراً على من يملك القوة، بل على من يملك الحق.
إن قصص البطولة والخذلان ليست حكراً على زمان أو مكان، لكنها تتكرر حيثما كان هناك ظلم يستفز كرامة الإنسان. لم يكن موقف القسَّام مجرد محطة عابرة في التاريخ، بل درساً خالداً يعبر الأجيال: أن البطولة الحقة لا تُقاس بالنتائج العسكرية، بل بالمبادئ التي تزرعها.
فالشجاعة ليست غياب الخوف، بل القدرة على المضي قدماً رغم حضوره. أما الخذلان، ورغم مرارته، فلا يمكنه أن يُطفئ جذوة الإيمان الصادق.
ويبقى عز الدين القسَّام رمزاً يتجاوز الحصار والموت، يقف شاهداً على أن الشجاعة، حين تتجذر في النفس المؤمنة، قادرة على مواجهة كل الخيانات والانتصار على كل الانكسارات.
ففي كل معركة تُخاض اليوم، وفي كل صوت يُرفع ضد الظلم، يعيش القسَّام من جديد، ويؤكد أن الشهداء، حقاً، لا يموتون

أضف تعليق
قواعد المشاركة