منير زيدان: الطبيب الذي جعل الإنسانية مهنته الأولى

منذ 3 أشهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

في مدينة صور العريقة، وفي حي الحسينية المتواضع، ولد الدكتور منير إبراهيم زيدان في 5 ديسمبر 1943، ليكون منارة إنسانية وطبية في زمنٍ عصفت به الحروب وأثقلت كاهل الفقراء والمحتاجين. نشأ في كنف عائلة كادحة متواضعة، مستلهماً منها قيم الشرف، والكرامة، والتواضع، التي شكلت جوهر شخصيته الإنسانية. لم تكن صور وحدها من عرفت طبيبها، بل كل الجنوب اللبناني وكل من قصد عيادته المتواضعة في الحارات القديمة، التي أضحت ملاذاً للمستضعفين.

 

انطلق منير زيدان من صور إلى جامعات الاتحاد السوفيتي ليحقق حلمه في دراسة الطب، وتخصص في أمراض القلب والشرايين. عاد إلى وطنه في أوج الحرب الأهلية اللبنانية، حيث التقت مهنته بشغفه الإنساني. كان طبيباً ماهراً واسع الاطلاع، لكن مهارته الطبية لم تكن الشيء الوحيد الذي جعل اسمه يتردد في أروقة الأحياء والمخيمات. فقد اقترن اسمه بلقب "طبيب الفقراء"، لأنه لم يكتفِ بعلاج المرضى، بل كان يعالج جروح الإنسانية التي خلفتها الحرب والحرمان.

 

لم يبحث عن شهرة أو ثراء، بل عن قلوبٍ تطمئن ووجوهٍ تتخفف من الألم. كان يرى في المرضى أهله، وفي معاناتهم وجعاً شخصياً. لم يميّز يوماً بين مريض وآخر، فعيادته كانت مفتوحة أمام الجميع، بغض النظر عن الطائفة أو الانتماء. كان يعالج المحتاجين دون مقابل، وكأنما يرى في كل مريض فرصةً لتجسيد رسالته الإنسانية.

 

كان له علاقة خاصة مع سكان المخيمات الفلسطينية في الجنوب اللبناني، حيث وجدوا فيه صديقاً وطبيباً وأخاً. تميزت صداقته بالشهيد الفلسطيني ديب الجسيم، ابن عشيرة عرب السّمنيّة، بأنها شهادة على التزامه بقضايا الأمة العربية وقيم العدالة. كان شاطئ صور يعانق شاطئ عكا في ذاكرته، وحلمه بزيارة فلسطين بقي يراوده حتى أنفاسه الأخيرة. رحل وهو يستنشق نسيم الجليل، يحمل أملاً لم يتحقق، لكنه ترك إرثاً يعبر عن هذا الحلم في محبته للفقراء وتضحياته من أجلهم.

 

لم يكن مجرد طبيب يعالج الأمراض؛ كان طبيباً يعالج الأرواح. لقد كان مفعماً بالحيوية والنشاط، صاحب أخلاق رفيعة ومروءة قلّ نظيرها. وفي زمن الحرب، حيث كان كثيرون يبحثون عن مصالحهم الشخصية، كان هو يبحث عن طرقٍ لإعانة المرضى الذين أغلقت في وجوههم الأبواب.

 

لقد أحبه الجميع؛ المرضى الذين وثقوا في علمه وطيبته، والأصدقاء الذين وجدوا فيه صديقاً نبيلاً، وحتى أولئك الذين لم يعرفوه شخصياً، لكنهم سمعوا عن قصص إنسانيته وشهامته. كان يعامل الجميع بمساواة، ويضع كرامة الإنسان فوق كل اعتبار، رافعاً شعلة الإنسانية في زمنٍ غابت فيه عن كثيرين.

 

قصصه مع الناس لا تزال تُروى حتى اليوم. تلك المرأة التي لم تكن تملك ثمن الدواء، فأعطاها العلاج مجاناً ورافقها حتى استعادت عافيتها. أو ذلك الطفل الذي بكى من الألم، فوجد في لمسة الدكتور زيدان دفئاً أبوياً جعله ينسى وجعه.

 

في 6 تموز 2009، ودّعت مدينة صور طبيبها وأيقونتها الإنسانية. مشى خلفه الأحبة الذين عرفوا قيمته، والذين فقدوا معه عوناً وسنداً. دُفن في مدينته صور، المدينة التي أحب ووهب حياته لخدمتها وخدمة أهلها. بقي الحلم الذي لم يتحقق – زيارة أرض فلسطين – شاهداً على ارتباطه العميق بقضية شعبها، وبأمل التحرر الذي كان يؤمن به.

واليوم، في ظل العدوان والظروف القاسية التي تعيشها صور، يفتقد الناس أمثال الدكتور منير زيدان، الذين يحملون همّ الآخرين دون انتظار المقابل. صور، التي تتنفس صموداً وشموخاً، لا تزال تتذكر طبيب الفقراء الذي حمل ألمها على عاتقه، وجعل من إنسانيته جسراً يعبر عليه المحتاجون نحو حياة أكثر كرامة.

 

إنّ الدكتور منير زيدان ليس مجرد ذكرى في ذاكرة مدينة صور، بل هو درس خالد في العطاء والمروءة والشجاعة الإنسانية. لقد عاش حياة ملأى بالمعاني، ورحل تاركاً وراءه إرثاً من الحب والإلهام.


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

فلسطين التي سلبها الزَّمنُ... ذكرياتٌ لا تمُوتُ!

يا ليت الزمانَ يعودُ، والدهرَ يُعيدُ ما كان، فننعمَ بليالٍ خلت، وأيامٍ ولَّت، لكنّها في القلبِ لا تزالُ ساكنةً، وفي الرّوحِ تمرُّ … تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية..
صامدون - عاملون - عائدون
    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية.. صامدون - عاملون - عائدون