سليمان الشيخ - عناقٌ خلفَ أسلاك المخيم !!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيرُويَ عن الشيخ علي الطنطاوي رحمَه اللهُ أنه قال: " عندما ترمي الترابَ فوقَ مَن تحبُّ بعد أن يغادرَ الحياةَ ، ستدركُ حينها أن الدنيا تافهةٌ جداً، والبقاءُ فيها لن يستمرَ طويلا..".
أحيانا ، يكتفي الإنسانُ بأن يُخرِجَ كلَّ مشاعرِ الحزنِ والأسى من خلال استرجاعِ شريطِ الذكرياتِ البعيدةِ والقريبة.
قد لا يعرفُ هذا الرجلَ الكثيرُ من الناس، لكنّه موسوعةٌ فلسطينيةٌ، ثقافتُه متنوعةٌ؛ سياسيةٌ وأدبيةٌ.. جارُ وصديقُ ورفيقُ ناجي العلي الرسامِ الكاريكاتوريّ الفلسطينيِّ المشهورِ ، من زواريبِ عينِ الحلوةِ إلى الكويتِ، قلمُه الحرُّ الجريءُ أنصفَ غسان كنفاني، وتعتبرُ مقالاتُه مراجعَ في التاريخِ الفلسطينيّ.
نزحَ من فلسطينَ عامَ نكبةِ 1948، وكانَ يومَها قد أكملَ الخمسَ سنوات، ليواجهَ العراءَ والعيشَ في الخيامِ بعيدًا عن وطنِه فلسطينَ وأرضِه في صفوريةَ عروسِ الجليل، في زواريبِ مخيمِ عينِ الحلوةِ نشأَ وتشكّلَ وعيُه السياسيّ.
بصماتُه كانت واضحةً في تبني وصقلِ المواهبِ التي تكتبُ بالهمِّ الفلسطينيّ. قدرُنا كانَ أن نلتقيَ خلفَ أسوارِ المخيم، وقدرُنا كانَ أن نفترقَ في عتمةِ الليلِ دونَ وداع، الحزنُ يا صديقي لا يُجدي..
أبو خلدون رصدَ الأحداثَ العربيةَ وحلّلَها على مدى أكثر من نصفِ قرن، كلُّ النّكساتِ والخيبات، عجنتْهُ بمرارةِ الواقعِ والأيام، كانَ أديبًا ومثقفًا ووطنيًّا من الطرازِ النادر.
صدرَت له العديدُ من الكتبِ والقصصِ منها: (الجميزة، ما لم يُعرف من أدب غسان كنفاني، من سيرة حنظلة الشجراوي، الكتاب الأسود الذي يؤرخ للمجازر الصهيونية، الذي تم السطو عليه!!)، له العديدُ من الدراساتِ والأبحاثِ والرواياتِ التي نُشرَت في عددٍ من الصحفِ والمجلاتِ العربية.
تابعَ مسيرتَهُ الأدبيةَ والثقافيةَ كاتبًا وصحفيًّا، كتبَ لمجلةِ الطليعة ومجلة السياسةِ الكويتية، وتولَّى مدير تحريرِ مجلةِ العربيِّ الكويتية. عقبَ حربِ الخليجِ الثانية، تركَ الكويتَ مُكرَهًا، وعادَ من جديدٍ إلى أرضِ الجميزةِ في عينِ الحلوةِ التي ما زالت تفوحُ منها رائحةُ التاريخِ المقاوم، هذه الجميزةُ التي ما زالت تحلمُ بانشقاقِ الأرضِ وانفجارِ البركان.
واصلَ كتاباتِه في السفيرِ اللبنانية والحياةِ اللندنية والقدسِ العربيّ.. ونشرَ العديدَ من الرواياتِ وقصصِ الأطفالِ في مجلةِ أحمد.
كتاباتُه تتوغلُ في التاريخ، في صورِ الوطنِ المسلوبِ خلفَ الأسلاكِ الشائكة، إنّه عالمُه الذي يمزقُنا ويبكينا.
صوتُه كانَ يدوّي في زواريبِ المخيم، يحثُّ الناسَ على الصبرِ ويحرّضُهم على المقاومةِ بمختلفِ أشكالِها حتّى الرمقِ الأخير ، إنّه صاحبُ الإرادةِ التي لا تلين.
رحلَ ابو خلدون، وليسَ وقتَ رحيل، فما زالت له حاجةٌ مُلحّة. عهدتُه مدافعًا عنِ الحق، عنِ الكرامةِ الإنسانيةِ والحريةِ، كانت له دومًا رؤيةٌ ثاقبةٌ بلا منازع، تجعلُه لا يجادلُ السفيهَ ولا يشتركُ في النقاشاتِ المبتذلة. في آخرِ مكالمةٍ بيننا، كانَ مؤمنًا بأنّ الأجلَ باتَ قريبًا لا محالة.
وداعًا يا (زلمة)، الكلُّ سيأتونَ بعدك، وما هي إلا فترةُ انتظارٍ قصيرة.
وداعًا من بعيدٍ يا أعزَّ الناس، لقد فاجأتَنا برحيلِك، ستبقى حيًّا في قلوبِنا ما حيينا.
إنّا لله و إنّا إليه راجعون.
أضف تعليق
قواعد المشاركة