من «ميلانو» على أمل اللقاء في «القدس»
وائل أبو هلال
كاتب وسياسي فلسطينيمرة أخرى يتجمّعون ليرسموا لوحتهم التي ما فتئوا يرسمونها منذ واحد وستينعاماً بلا كلل ولا ملل، اللوحة نفسها والألوان نفسها والأشكال نفسها.. لكن يزيد بعمر السنين؛ السنينالتي لا تزيدهم إلا إصراراً، ولا تُنقص من ذاكرة أجيالهم الممتدة عبر التاريخ والجغرافيا اسم قرية أو خربة أو حارة، ولا تُنسيهم تاريخ مذبحة أو مجزرة، ولا تنتزع من أعماق نفوسهم لحظة عزة أوفخراً بصمود لم يعرف له الزمان ولا المكان مثيلاً..
حملوا بيارقهم، وهي التي لا يلقونها أبداً مهما طال الترحال أو امتدّ، وامتشقوا رايات خفاقة دوماً، لا تنكّس لفقد عزيز أو كبير، وهي –لا ككل الرايات– تزداد شموخاً وسمواً كلما ترجّل فارس أو ارتقى للعلا شهيد. وما أكثر الشهداء!!
حملوا بيارقهم وأعلامهم وحطّوا رحالهم – هذه المرة – في «ميلانو!!».
في «ميلانو» نظموا عقدهم الفريد من جديد؛ فامتزجت الغربة بالعزة، والشوق بالصمود، والشتات بالإصرار. وتعانقت «غزة» مع «كفر كنّا»، و«بيت لحم» مع «رام الله».
في «ميلانو» قال هنيّة كلمة المقاومة، وأنشدت «الاعتصام» لحن الصمود، وأكد «الفلسطيني» المشرّد –باسم عشرة آلاف- إصراره على العودة.
في «ميلانو».. حذّر «الرائد» الذي لا يكذب أهله من خطر جسيم محدق بالقدس والأقصى، وأن لا حلّ لذلك إلا «بصلاح» للأمة جديد! ورفيقه «البرغوثي» –سليل العائلة التي أجنبت نائل ومروان وعبد الله– وقف شامخاً يحكي قصة معركته مع المغتصبين، وصموده وصحبه أمام جبروت جدار الفصل العنصري.
في «ميلانو» – ككل مرة – ذابت الفوارق بين الأجيال، وتحدّث الجميع اللغة نفسها، وتنفسوا الهواء نفسه.. كلهم كان يتنفس هواء فلسطين كل فلسطين، لأنهم كانوا يعيشون بأرواحهم في فلسطين لا في «ميلانو»، لم يشعروا «بالمتوسط» يفصلهم عنها، ولم يحسّوا بسياط ستين عاماً من الشتات والتيه في كل جغرافياالأرض.. بعضهم لا يتقن اللغة العربية ولو «رطناً»، ولكنه يرتل الشعار الرائع ترتيلاً بليغاً باللكنة والتأتأة: «العودة حق ال تنازل عنه». حتى لو لم يفهم المفردات، فهو يعيش المعنى، بل إن المعنى يسكن وجدانه ويسري في شرايينه، لأنه الحلم الذي ولد معه ويعيش له.
في «ميلانو» تضامن المؤمنون؛ كل المؤمنين بحق العودة، حتى أولئك الذين لا تعنيهم العودة بشيء ولم يروا فلسطين يوماً. جمعهم الإيمان بالحق المقدس لكل إنسان في بيته وأرضه وتاريخه؛ فكان التونسي الذي عزف حواراً مفتوحاً مع «رموز العودة»، وكان المغربي والمصري، بل كان الإيرلندي والبريطاني والإيطالي.. نعم كان هناك كل حرّ مؤمنٍ بحق الحياة الكريمة موجوداً، وقال كلاماً تعجز عنه جيوش عربية وأساطيل إسلامية.
في «ميلانو» أكّد الحاضرون وملايين المراقبين عبر الفضاء المفتوح أن الحقوق لا تسقط بتقادم الزمان ولا تبدل الأجيال ولا تغيير المكان، وأنّ غطرسة الظالمين، وجبروت الطغاة وقوة المحتلين لن تَنتزع الإيمان بهذا الحق من طفل تشرد أبوه، فولد وعاش في ربوع سويسرا، ولا من عجوز دمّرت «برّاكيتها» في نهر البارد... لأنهم يتنفسون الهواء نفسه ويجري في عروقهم الدم نفسه.
مرة أخرى في «ميلانو»، كما في لندن وبرلين وفيينا ومالمو وروتردام وكوبنهاغن، اجتمع آلاف المؤمنين بحقهم، الصامدين في شتاتهم، القابضين على جمر الغربة على أمل العودة، اجتمعوا ليقولوا للعالم كله: «لن نفرط بشبر اغتصبه بولندي أو مجري، ولن نتساهل ولن نسمح لأي مفرّط بأن يوقع باسمنا صكاً مزوراً يتنازل فيه عن حبة تراب في «زاروبة» خربة يافاوية».
مرة أخرى في «ميلانو» صلّى الحاضرون أن تكون الأخيرة في غياهب الشتات والتالية في ربوع القدس.
أضف تعليق
قواعد المشاركة