قوافل العودة.. من ألمانيا
طارق حمود
كاتب وباحث بالشأن الفلسطينيعلى الرغم من سوادوية المرحلة فيما يتعلق بقضية اللاجئين الفلسطينيين، التي تتزامن مع تسريبات عن خطط محتملة لعملية السلام، مترافقة مع تصريحات علنية تتحدى إرادة الناس، وتمعن في قهر مشاعرهم، فإن المشهد فيه بصيص أمل، وربما أكثر من بصيص، فكما عشنا على شعارات لازلنا نؤمن بحتمية مآلاتها حتى وإن سارت ريحها بعكس اتجاه، فإن الشعب لايزال هو صاحب القرار برغم المصادرة، ورغم احتكار الإرادة.
في الغرب الألماني الممتد يتوزع اللاجئون الفلسطينيون في عدة مدن يفصل بينها عشرات الكيلو مترات، منهم الطلاب ومنهم المهجرون من مخيمات لبنان أو العراق أو سورية منذ زمن طويل، عاشوا وترعرعوا في بيئة حاضنة لكل ماهو صهيوني في المستوى السياسي، إذ أن ألمانيا لاتزل تحاول في كل لحظة التكفير عن ذنوب هتلر بحق اليهود إبان الحرب العالمية الثانية، حتى لو كان على حساب الآخرين أحياناً، في هذه البيئة ينشأ جيل فلسطيني متعطش لانتمائهِ الوطني، تشغله فلسطين بكل تشعبات المأساة من غزة إلى الضفة إلى المخيمات في سورية ولبنان، إلى أراضي الـ 48. هذا في جغرافيا متشعبة غرباً، إلا أن هذه الجغرافيا تكاد تتصل في برلين شرقاً لتغدو أكثر تعبيراً عن كينونة المجتمع الفلسطيني الذي يحتل صدارة الوجود العربي في العاصمة الألمانية برلين، التي تحتضن في جنباتها شوارع بأكملها تكاد تكون بقعة مأخوذة من عين الحلوة أو الرشيدية، أو مخيم اليرموك، يمكن لأي زائر أن يعيش تفاصيل حياة المخيم بكل مافيها من تنوع على عدة مستويات، منها السياسي، ومنها الاجتماعي، وحتى النشاط الاقتصادي فيه كل ملامح تلك الأزقة التي خلفوها في لبنان وسورية. تتناول فطورك في مطعم فلافل مع "الشطة" الفلسطينية، فيما الغداء في مطعم عكا الذي يحمل اسم مدينة صاحب المحل، لتمسي بمقاهي الليل التي تترنم فيها على مدود اللهجة الفلسطينية صراخاً أو مزاحاً، هي بالنسبة للألمان أصوات غير مفهومة، لكنها بالنسبة لوافد من أزقة اليرموك ودرعا، هي موسيقى الحلم، وسيمفونية الأرض التي نعشق دون أن نراها.
المئات ممن احتشدوا بمؤتمر رابطة المرأة الفلسطينية الرابع، مهرجان جماهيري وطني، فيه من الحماسة والكلمات العطشى لوطن سليب، والدبكات التي تردك إلى أعراس المخيم ما يجعل من كل يأسٍ محال، نساء وأطفال رسموا على محيّا الرجال ابتسامة الأمل، وزرعوا في طفولة الغربة عشقاً لن تقوى حلول الاستسلام على انتزاعه، أو استبداله، وليس من إنشاء القول أن نسرد كل هذه العواطف لنعزي النفس، فهي ليست مجرد حماسة أطلقتها ساعات الهتاف والغناء للوطن، وإنما هي الاعتبار والتقدير لحالة فلسطينية نمت وتنمو دون أي اعتبار لفروق الجغرافيا والتاريخ، فتجاوز هذين العاملين كان ولايزال هو التحدي لجيل فلسطيني شردته مآسي الحروب، وطردته إلى زوايا الأرض، في برلين وقفت أم أحمد وأخواتها كمدرسة لا مجرد رابطة للمراة هناك، ودبك أطفال برلين كعشق لاينتهي على أهازيج أبو عرب، وإلى عنان السماء رفع أبو حمزة وأبو أحمد وأبو وائل وأبو أشرف وأبو بكر... وآباء كثر يصعب حصرهم، رفعوا شارة النصر الأكيد في مخيلتهم رغم كل القهر الذي يعيشه شعبنا، وعلى مطلع الشباب ابتسامات بحجم الوطن، وأعلامٍ بلون دم الشهيد، وخضرة الأرض التي نزف عليها، وعلى أكتافهم كوفية خيطها الأسود يرسم خريطة فلسطين في كل التفاصيل.
قوفل العودة من ألمانيا، هي تلك التي ستنطلق بالمئات بالحافلات والسيارات والقطارات وعبر المطارات باتجاه العاصمة الفرنسية باريس لينضموا إلى الجسد الفلسطيني الواحد الذي سيلتقي من كافة أنحاء القارة الأوربية هناك لإحياء المؤتمر الثاني عشر لفلسطينيي أوروبا تحت عنوان "فلسطين تجمعنا، والعودة موعدنا" وهناك مع العرس تلتقي فلسطين بفلسطين، فلسطين الشعب، مع فلسطين الهوية والأمل والمراد، ليرسموا خطاً واحداً شرقاً لايخطئ دربه باتجاه القدس في قلب الوطن المنثور زعتراً وإقحوان من البحر إلى النهر، ومن أعلى الجليل حتى أسفل النقب.
المصدر: السبيل الأردنية
أضف تعليق
قواعد المشاركة