عيادة طبيب باتت رمزاً للعطاء والبطولة في خزاعة المدمرة
ملحمة إنسانية استثنائية خاضها الدكتور كمال محمد قديح، على مدار أيام عدة لمساعدة وإنقاذ الجرحى، الذين تساقطوا بالعشرات خلال محرقة خزاعة الأخيرة، دون أن تمنعه إصابته أو استشهاد شقيقه وقصف عيادته عن مواصلة العمل بكل تفانٍ وإخلاص.
وأشار الدكتور قديح، إلى آثار الدمار الذي حل بعيادته، وقال لمراسل "المركز الفلسطيني للإعلام": "كانت أيامًا صعبة وقاسية رددنا فيها الشهادة مرارا، وفي نفس الوقت أدينا الواجب في مساعدة الجرحى الذين توافدوا علينا بالعشرات".
صمود وبقاء
الدكتور قديح، هو واحد من المواطنين الذين لم ترهبهم تهديدات الاحتلال بإخلاء البلدة عندما ألقت عليهم منشورات بتاريخ (17-7) فآثر البقاء وفي وجدانه من يبقى إن رحلت أنا ومن يساعد الأهالي في البلدة التي يقطنها 13 ألف نسمة وتخلو من أي عيادة صحية رسمية.
يتذكر قديح وقائع العدوان: "هددت قوات الاحتلال باجتياح البلدة بتاريخ 20-7 ولكن مرت الليلة بسلام، أما الليلة التي تليها فبدأ مسلسل القصف باستهداف مدخل البلدة، وقطع الطريق الذي يربطها بعبسان الكبيرة".
هذا اليوم كان استثنائياً، فقد أطلقت قوات الاحتلال في ساعات المساء غازاً له رائحة كريهة وتسبب بعشرات حالات الاختناق والاحتقان .. حوالي 50 مصاباً توافدوا للعيادة المتواضعة التي لا تزيد مساحتها عن 80 م2 ولكنها قامت بدور كبير في مساعدة الجرحى والمصابين.
دفع قصف الغاز مجموعات من المواطنين إلى الرحيل عن البلدة، ولكن الدكتور قديح، مع آلاف آخرين، آثروا الصمود والبقاء، "هذه أرضنا ولن نغادرها بسهولة .. هنا كبرنا وهنا حلمنا ومن هنا سننطلق نحو الأمل المستقبل".. قال الطبيب الذي بات أحد رموز البلدة والتضحية فيها.
وأضاف "يوم الثلاثاء (22-7) استمرت أعمال القصف بأنواعها المختلفة من قوات الاحتلال طوال اليوم، وكان هناك إطلاق العديد من القذائف المسمارية والمدفعية والصوتية والغازية، أما في ساعات المساء فبدأ التوغل البري لينتهى بعد ساعات بإحكام سيطرة الاحتلال على البلدة بعد استخدام كثافة نارية غير مسبوقة من بينها البراميل المتفجرة وقصف المنازل على رؤوس ساكنيها".
رحلة جلاء انتهت بعشرات الإصابات
صباح الأربعاء (23-7) بدأ الدكتور قديح سلسلة اتصالات لتمكين المواطنين المحاصرين في البلدة وبينهم مصابون لجؤوا إلى عيادته، من إخلائها، ولكن كل المحاولات باءت بالفشل، ولكنه تحرك برفقة نحو ثلاثة آلاف من الأهالي بعد علمهم بوجود الصليب الأحمر على مدخل البلدة.
يقول: "انطلقنا من عند العيادة الخاصة بي باتجاه مدخل خزاعة، وهناك فوجئنا بعدم وجود سيارات للصليب الأحمر، أو الإسعاف، في المقابل وجدنا العديد من دبابات الاحتلال، وانتشار لجنود الاحتلال في عدد من المنازل العالية بالمنطقة".
أضاف "نادينا على جنود الاحتلال أننا مدنيون مسالمون عزل .. وأن معنا تنسيقًا للخروج من البلدة والهرب من الموت".
ما هي إلا دقائق، حتى رد جنود الاحتلال على نداء الاستغاثة بإطلاق النار على المواطنين المتجمعين، ليسقط عشرات المصابين ويبدأ الجميع بالفرار عائدين باتجاه منازلهم ومقر العيادة التي باتت منطلق التحرك في المنطقة.
وقال: "بدأ المواطنون بالعودة، وتبين لي أن هناك عددًا كبيرًا من الإصابات جراء إطلاق النار تقريبا 30 إصابة جرى نقلهم لعيادتي، كان بعضهم في حالة الخطر".
إسعاف الجرحى بإمكانات متواضعة
لم تكن مهمة الدكتور قديح سهلة، فالقصف في كل مكان، والإمكانات الطبية في العيادة تكاد تكون نفدت، مع علاج عشرات الجرحى في الفترة السابقة، مع نفاد المستهلكات الطبية اضطر إلى استخدام الشاش غير المعقم، وخيوط التنجيد بدلا من الخيط الطبي، والكولونيا بدلاً من الكحول.
وقال: "مع صعوبة الوضع كررت الاتصال بالإسعاف والصليب الأحمر وأبلغتهم بخطورة الوضع ووجود إصابات خطيرة لدي، وقلة الإمكانات دون جدوى ولم يكن أمامي إلا العمل بكل طاقتي وتطويع الإمكانات لم يكن هناك طبيب سواي، لم يكن هناك أي ممرض أو مساعد، فاستعنت بأحد الشباب وقمت بتدريبه ولكنه سرعان ما أصيب جراء القصف الذي استهدف العيادة وكانت إصابته خطيرة".
قصف العيادة
مساء ذلك الأربعاء الحزين، وفيما كان الدكتور كمال قديح، يعمل على تضميد جراح الجرحى، أطلقت طائرة بدون طيار صاروخين في فناء العيادة الذي حول لمعبر لاستيعاب الجرحى الكثر الذين لم تتسع لهم العيادة من الداخل.
يقول الدكتور كمال: "انفجر الصاروخ في المكان وأدى إلى إصابتي بجروح، واستشهاد شقيقي أحمد، 23 عاماً، الذي كان يقف بجواري لمحاولة مساعدتي، كما أصيب جراء القصف 30 شخصاً جددًا من ضمنهم بعض الجرحى الذين أصيبوا بإطلاق النار صباحاً ما تسبب بمضاعفة إصاباتهم. كما تسبب القصف في تهشم نوافذ العيادة وإلحاق أضرار بها".
لم تمنع الإصابات التي تعرض لها الدكتور كمال من مواصلة عمله، يقول: "تحاملت على إصابتي وقمت برط الجرح في رجلي، وواصلت تقديم الإسعاف للجرحى".
لم تكتف قوات الاحتلال بما حدث، فبدأت قناصة الاحتلال بعد ذلك بإطلاق النار بشكل متقطع باتجاه العيادة والمصابين داخلها، ومحيطها، ما دفع المتواجدين داخلها إلى الهرب منها عبر نافذة في المنزل المجاور باتجاه منزل آخر.
رحلة هروب جديدة
يقول الدكتور: "هربنا وسط إطلاق النار، حملنا الجرحى وكذلك جثة أخي الشهيد أحمد، لمنزل الحاج كامل قديح، لنفاجأ عند فجر الخميس (24-7) بقصف جديد وإلقاء غاز على المنزل لنبدأ رحلة هرب جديدة".
يقول: "توجهنا إلى شارع صلاح الدين المجاور الذي يقع جنوب العيادة .. وبدأت أعدادنا تتزايد؛ كنا حوالي 1500 شخص، وتزايدت مع الطريق وانضمام مواطنين إلينا. كانت الرؤية محدودة بسبب الغاز الذي أطلقته قوات الاحتلال، وخلال مسيرنا أطلقت طائرة دون طيار صاروخاً باتجاه محيطنا، ما أدى إلى إصابة الطفل المصاب أصلاً بدر حاتم عميش بشكل مباشر في البطن، وخرجت أجزاء من أحشائه، حيث استشهد لاحقاً بعد عدة ساعات".
لم تكن رحلة الهرب سهلة؛ فالمواطنون اضطروا للسير مسافة طويلة لم تخل من القصف والاستهداف تخللها استشهاد المسن إسماعيل حسن خليل أبو رجيلة، 61 عاماً، والمواطن نافذ سليمان قديح، 45 عاماً، وابنته دولت، 24 عاماً، قبل أن يتمكنوا من مغادرة البلدة ليعيشوا معاناة جديدة مع فصل جديد من فصول التهجير القسري بعيداً عن بيوتهم وبلدتهم التي لم يتمكنوا من العودة إليها إلا بعد اندحار الاحتلال عن البلدة.
مئات المواطنين اليوم باتوا يتوافدون إلى العيادة البسيطة التي تحولت إلى أحد رموز الصمود والبطولة في البلدة خلال العدوان، ولسان حالهم يقول عدنا وسنواصل الصمود.
أضف تعليق
قواعد المشاركة