الطريق إلى فلسطين يمرّ بتشيلي
فرج أبو شقرا
ناشط شبابي فلسطينيمقال العودة
في بحر السياسة الذي تتلاطم أمواجه في عواصفٍ متتالية، تعددت كثيراً التيارات المائية التي تشكل طرقاً للوطن حسب شراع كل قارب. في ذلك البحر تعددت الطرق إلى فلسطين، وتاهت بوصلة كثيرٍ منها، لكن هناك في تشيلي بقيت البوصلة ثابتة على مؤشرها الصحيح حسب قانون جاذبية الوطن.
عند مدخل النادي الفلسطيني في العاصمة التشيلية سانتياغو، رُفعت إشارات طريق تدلّ على مرافق النادي المختلفة، تحتضن فيما بينها مؤشراً هو الوحيد الذي تهفو له أفئدة الفلسطينيين هناك، والذين تقدر أعدادهم بنصف مليون نسمة. إنه مؤشر الاتجاه نحو فلسطين الذي ذيل بالرقم 13.224 كلم هي المسافة التي تبعد فلسطين عن تشيلي. قد تشكّل تلك الآلاف من الأمتار جداراً منيعاً يحجب رؤية الوطن، ويسد الطريق إليه، ويقف كصخرةٍ صمّاء في طريق العودة. قد تكون تلك معادلة حقة لبلدان شتى، لكن قاعدة الانتماء الفلسطيني تكسر هذه المعادلة.
فلم تشكّل الـ13.224 كلم مسافة البعد عن فلسطين - وإن كانت كذلك - ولكن الانتماء يطوي هذه الأميال، ويُذيب البعد، ويعكس حجم الحنين والشوق للوطن. فقد حفظ المهاجرون الفلسطينيون هذه الأمتار جيداً، حفظوها بالمعاناة والحنين، وبالألم والشوق على حد سواء. ففي طريق الهجرة كانت أعين الفلسطيني شاخصةً إلى الخلف، ترقب الوطن بكل تفاصيله لترسخها في الأذهان كي لا تنسى، فيبادلها الوطن نشيداً "لا تقولوا وداعاً بل قولوا إلى اللقاء". وطئ الفلسطينيون تراب المهجر بأقدامهم، وعقولهم بقيت مشغولة بمن هجرتهم.
"في آخر الدنيا" أسس الفلسطينيون مجتمعاً جديداً، قد لا يشبه المجتمع القديم بكثير من تفاصيله، إلا تلك الألوان الأربعة التي صبغتهم، فلا هم فارقوها ولا هي فارقتهم، فلا تزال ألوان علم فلسطين تزينهم، وتجملهم، وتميزهم عن مكونات مجتمعهم الجديد الذي اندمجوا فيه.
مما لا شك فيه، أن الشعوب التي لها قضية، تنعكس قضيتها في تفاصيل حياتها، ومن كانت له قضية عادلة كقضية فلسطين، فلا بد أن ترتدي عبائتها في كل محفل، وفي كل أرض، وفي كل زمان، ولا بد له من نشرها وتبيان الحق والعمل على استرجاعه وحشد الأنصار والمتضامنين وتعرية الأعداء وكشف زيف ادعاءاتهم. كذلك فهم فلسطينيو تشيلي نصرة قضيتهم، فعكسوا انتمائهم واقعاً مجسداً في بلد المهجر، الذي انخرطوا فيه اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، من أجل القيام بدورهم المنشود، كسفراء للقضية في القارة اللاتينية.
كثيرةٌ هي النجاحات التي حققها الفلسطينيون شعبياً على هذا الصعيد، لتعبر عن انتمائهم الفلسطيني، والتي تُوّجت خلال أسبوع فلسطين الذي نظمه فلسطينيو تشيلي مطلع العام الحالي، والذي شهد تقدماً كبيراً في الأداء الشعبي في أمريكا اللاتينية عموماً وفي تشيلي خصوصاً. فإلى جانب العديد من الأنشطة الشعبية والزيارات والمعارض التي نفذت في عدد من المدن التشيلية بمشاركة وفد فلسطيني من لبنان وأوروبا وحضور وسائل إعلام فلسطينية وعربية بهدف الحفاظ على الهوية الفلسطينية، عُقد خلال الأسبوع الفلسطيني ورشة عمل للشخصيات الفلسطينية السياسية والإجتماعية ورجال الأعمال في العاصمة التشيلية سانتياغو، تمخض عنها الإعلان عن مؤتمر فلسطينيو أمريكا اللاتينية في أواخر شهر تشرين الأول (أكتوبر) القادم، في محاولة منهم لتنسيق الجهود وبحث أوضاع الجاليات الفلسطينية في 14 دولة في أمريكا اللاتينية. بالإضافة لعقد لقاء لأعضاء البرلمان التشيلي من أصول فلسطينية وعدد من أنصارهم، والذي أفضى لتبني حملة مطالبة بريطانيا بالإعتذار عن وعد بلفور في ذكرى مئويته، والإعلان عن زيارة مرتقبة لعدد من أعضاء البرلمان إلى غزة لكسر الحصار عنها، وتشكيل مجلس أصدقاء فلسطين من البرلمانات اللاتينية.
لم تغب فلسطين لحظة عن أذهان الفلسطينيين في تشيلي، بل بقيت قضية حية في عقولهم، يعملون من أجلها، وينشغلون بهمها، ويسعون لنصرتها. وإن هذا التألق في الإنتماء، والروعة في الأداء، إنما يرسم لوحة، ويخط رسمة، ويشق طريقاً لفلسطين يمر من تشيلي.
أضف تعليق
قواعد المشاركة