غراس أمي الذي سأحرص عليه
ياسر علي
إعلامي وشاعر فلسطينييراودني سؤال دائم في هذه الأيام، ما الذي أوصل أمي في سنواتها الأخيرة إلى هذا المستوى من الرضى، رغم طريق ذات الشوكة الذي سلكته في حياتها.. فكانت كمن يرعى أشجاراً أثمرت بما يجعله ينظر إليها بعين الرضى.
وكمعظم أمهات فلسطين، لم تغرس فينا أمي غرسة أو فسيلة، بل غرست حقلاً من القيم الوطنية، وهذا الحقل هو ما لا أريد أن أخسره أو أتركه، وسأحرص عليه من أجل برّها وجعل هذا الحقل صدقة جارية عنها.
هنا، أستعيد صوراً من ذاكرة أمي.. هي «فلاشات» بتسلسل زمني كانت تحكيه لنا، أحياناً بفخر، وأحياناً بحزن وأحياناً أخرى بفرح.
* * *
حدثتنا كثيراً عن يومياتها قبل عام 1948، في البيت والزرع والفلاحة والحصاد والقطاف وعصر الزيتون، وفي حواري البلد ومعالمها.. وفجأة نشبت الحرب في عامي 1947-1948، ونظّمت البلد حاميتها وفرقها المقاتلة، وانتظم شبابها في مجموعات مسلحة.. بعض الفتيات ساهمن بنقل صناديق الذخيرة إلى المواقع المتقدمة، وكانت أمي من بينهن..
قد تكون طفلة لا تستطيع تعليم أحد وهي في سن الرابعة عشرة، أو أن تزرع «غرسة المقاومة» فينا.. لكنها في سردها بفخر لتلك الحقبة علّمتنا أن المقاومة كقيمة، هي مصدر افتخار، بغضّ النظر عن النتيجة.. فالمقاومة واجب أما النصر فهو نتيجة فقط..
* * *
وزرعت «غرسة الكفاح» من خلال يومياتها التي عشنا معها جزءاً منها.. بعد النكبة، والمسيرة الطويلة إلى الاستقرار في المنفى، شهدت أيامها شقاءً وتهجيرات عديدة، كانت بعد كل حادثة، تنهض لتكمل مسيرتها.. وعلمتنا أن الكفاح أسلوب حياة ومعيشة، وليست حدثاً عابراً أو معركة مؤقتة.
وعلّمتنا أن الكفاح بناء.. يبدأ من التفاصيل ليصل إلى الكليات. وأن الكبوات ليست إلا عثرات على الطريق الطويل، نحن محكومون بها، ومحكومون بالنهوض منها. وأن العلم هو أحد أركان الكفاح في الحياة، وأن العلم سلاح تحمله ليدافع عنك، وليس بيتاً او مالاً أو عرضاً عليك أن تحميه.. ولو بالموت.
* * *
أما «غرسة الصمود»، ففي تجربتين واضحتين، عايشتُ خبرة أمي بالصمود، وكانت تقوم فكرتها على أساسين: التخطيط والتضحية. في تجربة حصار تل الزعتر، كانت كأنها جاهزة للحرب، وحين انتقلنا من بيتنا إلى الملجأ كانت ثيابنا جاهزة، وطعامنا جاهزاً.. لم نجُعْ، ولم نَعْرَ ولم نُصَبْ بأمراض الحصارات.
غير أن ما لم نشعر به كأطفال في تلك الفترة هو التضحية التي كانت ترهقها.. لقد كانت عندما ننام، تبدأ هي العمل حتى الفجر في فرن الثورة من أجل أن تحصل في الصباح على الخبز لنا.. وندرك الآن كم كان صعباً أن ترعانا وتحمينا طوال 52 يوماً في الحصار.
في التجربة الثانية، في حصار مخيم برج البراجنة سنة 1985، أدركَتْ منذ اليوم الثالث أن الحصار طويل، كانت جاهزة، قسّمت المؤونة في البيت، وكان الأقارب يستشيرونها، كانت تدرك أن حصار الماء أصعب من حصار الطعام. هنا بدأتُ أصدّق أن شعبنا يستفيد زرع بعض الأحواض بالخضار بدلاً من الورود وغيرها..
* * *
لم تكن فكرة العودة عندها مجرد حلم أو حق ضائع، كانت حقيقة لم تخرج منها، ولم تكن مضطرة لبذل جهد لإقناع الآخرين بها أو تثبيتها. لقد زرعت فينا «غرسة العودة» كحقيقة مستقرّة لا تحتاج إلى أدلة.
لا أذكر بحياتي يوماً واحداً لم تحدثني فيه أمي عن بلدنا «شعب»، وعن أراضيها وحكاياتها وطرائف بعض أهلها.. وإن لم يحدث ذلك، فإنه يكفي جريان الأمثال الشعبية الفلسطينية في حديثها، وذاكرتها القوية التي أزعم أني ورثت بعضهاً منها.
كانت تؤرخ أيامها بالمواسم، موسم البذار والحصاد والقطاف والتغمير وعصير الزيتون والخضار والفواكه الصيفي والشتوي.. وهذا الأمر هو ما شجعني على تأليف كتابي «شعب وحاميتها»، الذي اعتمد بنسبة 75% على ذاكرتها.
وقد كانت ذاكرتها تثري معظم لقاءاتنا، وقد شاركت في أكثر من برنامج متعلق بالذاكرة، مثل شريط «دموع الشتات» الذي أنتجته مؤسسة «نساء من أجل فلسطين».. وليس غريباً أن تطلق هذه المؤسسة عليها لقب «سيدة العودة».
* * *
غرسة الوطن.. فلسطين
يوم وفاتها سألت نفسي، هل هي أم كالأمهات؟ هل يكفيها لقب الأم، على عظمته؟
ولدَتْنا بالوجع، وأرضعتنا بالمرارة، وأطعمتنا بالصبر، وربّتنا بالتعب، وعلّمتنا باللجوء، وحَمَتْنا بالحصارات، وأورثتنا حب الوطن والعودة..
غرست فينا فلسطين.. فلسطين الوطن والعودة والهوية..
فلسطين الحرة المحررة.. التي أبت أن تزور حدودها بعد تحرير جنوب لبنان، كانت تقول: لماذا أذهب وأراها خلف الشريط الشائك..
بقيت خمس عشرة سنة، ترفض وتعتذر وتتملص من زيارة جنوب لبنان، كأنها تقول: أفضل أن تأخذوا رفاتي إليها وهي حرة، على أن تراها عيوني وهي أسيرة!
أختم ببيت شعر مما كتبته لها يوم وفاتها:
غذّيتِ ذاكرتي وقلبي بالحكايات الجليلة عن بلادي، كنتِ أنتِ ليَ الوطنْ