نكبةٌ.. في كل يوم
ديانا الخليلي
صحفية وباحثة إجتماعية لبنانيةمقال العودة
في الذكرى السبعين للنكبة، ذكرى تهجير مئات الآلاف من الشعب الفلسطيني وسلخهم عن تراب أرضهم ورائحة وطنهم وحيطان منازلهم وتشتيتهم في العالم وتحويلهم إلى لاجئين وغرباء في بلاد حطوا رحالهم فيها مرغمين هرباً من الإرهاب الصهيوني العنصري، هرباً من القتل والدمار، بحثاً عن الأمن والأمان، معتقدين أنها مسألة أيام أو شهور وسيرجعون إلى الوطن، فاحتفظوا بمفاتيح بيوتهم على أمل العودة، على أمل أن تتحرك الضمائر وتتوحد لإنقاذ شعب بكامله من الظلم والقهر، ليستعيد آلاف الأطفال بسمتهم ويكبروا في أحضان بلدهم ويعيدوا إعمار ما خرب بيد أعداء لا دين لهم ولا رحمة في قلوبهم، لا يتحدثون إلا بلغة الدم، وبصمت أخوة لهم خافوا على أنفسهم ونسوا أن الموت في سبيل الحق والكرامة أسمى بكثير من الحياة بذل وضعف وسلبية.
15 أيار 1948 يوم غير وجهة التاريخ، هو ذكرى النكبة ولكننا وللأسف نعيش في كل يوم نكبة جديدة.. النكبة عندما يحرم اللاجىء الفلسطيني من حقوقه وتهمته الوحيدة أنه لاجىء، لقد طرد من وطنه وأجبر على ترك عمره وذكرياته وهواء بلده وشمسها وترابها، و يتمنى كل يوم أن يعود إليها، فلا حضن يشبه حضن الوطن الأم.
النكبة عندما يعيش اللاجىء الفلسطيني في مخيم لا تتوفر فيه أدنى متطلبات العيش الكريم والعالم يراقب ويشاهد بصمت متغاضياً ومتجاهلاً كل وائق حقوق الإنسان.
النكبة عندما يموت طفلٌ فلسطيني نتيجة صعقةٍ كهربائية جراء اختلاط الماء بالكهرباء في إحدى مخيمات اللجوء في بيروت.
النكبة عندما يتخرج اللاجىء الفلسطيني طبيباً ولا يستطيع أن يمارس شغفه بعلاج الناس وتخفيف آلامهم لأنه فلسطيني.
النكبة عندما تكتظّ البيوت داخل المخيمات، فلا خصوصية ولا نور ولا مكان للّعب ولا بيئة صحيّة ولا أمان.
النكبة عندما تعلن إسرائيل القدس عاصمةً لها وأمّة المليار نائمةً إلّا من رحِم ربي. فهم مشغولون بسفرة رمضان، واختيار أجمل المسلسلات لمتابعتها خلال الشهر الكريم، هموم الحياة ألهتم عن قضايا أمتهم ونسوا أو جهلوا أن العبادة ليست فقط بالصوم والصلاة والحجاب، بل هي أشمل وأعمق من ذلك. فالمسلم الحق يتفاعل مع قضايا أمته ويدافع عنها، فلا يسكت عن ظلم يطال أخوة له في الدين والإنسانية.
النكبة عندما يحرم حبيبان من بعضهما لعشرات السنين، تهمتهما أنهما متمسكان بالوطن، لم يرضيا الذل والاستسلام، فكان العقاب أن يقضي هو حياته داخل قضبان الأسر في سجن العزة والكرامة، وأن تبقى هي على العهد بانتظار حرية حبيبها وشريك حياتها، والنكبة عندما تنهمر دموعنا عندما يموت البطل في المسلسل أو الفيلم ولا تؤثر فينا قصة زوجين تفرقا ظلماً.
النكبة عندما تصبح الشمعة قاتلةً، تقضي على حياة عشرات الأطفال في غزة لأنها الوسيلة الوحيدة المستخدمة في الإنارة، تحرق المنزل فتذوب أجساد الأطفال حتى الموت.
النكبة عندما يعيش أهل غزة منذ 12 عاماً في حصار، تخلّلته ثلاثة حروب مدمرة قضت على البشر والحجر دون أن تنال من إرادة شعب يأبى الخضوع مهما كان الثمن.
النكبة عندما يحترق قلب أم غزاوية على ابنها المريض والذي يحتاج إلى عملية طارئة، تراه يموت أمام أعينها وهي عاجزة، لأن السلطات الإسرائيلية تحرمه من الخروج من غزة لنيل العلاج.
النكبة عندما يحرم المرابطون من الصلاة داخل المسجد الأقصى وهم بعيدون عنه فقط بضعة أمتار.
النكبة عندما يبني ابن الضفة منزله فيهدم، يعيد بناءه فيهدم مرة ثانية دون سبب، فقط لأنه مواطن شريف، رفض أن يبيع وطنه وظل متمسكاً بكل حفنة تراب منه.
النكبة عندما تتجمّد عائلة سورية من البرد في طريقها من سوريا إلى الأراضي اللبنانية هرباً من القذائف والصواريخ.
النكبة عندما يحرم أطفال سوريا من التعليم ويهدد جيل بأكمله بالضياع، فأي مستقبل ينتظر هؤلاء الأطفال وكيف لهم أن يعيدوا بناء ما دمرته الحرب وهم جاهلون، لا يمتلكون أدوات الصمود والمقاومة في وجه أيام صعبة تنتظرهم.
النكبة عندما تبكي شابة سورية من شدة القهر الذي عاشته وعانته خلال الحصار في الغوطة صارخة: هم يقيمون المؤتمرات ويحاربون بعضهم ونحن نموت في اليوم ألف مرة من الجوع والعطش والظلم والخوف. ليتهم يعيشون حياتنا ليوم واحد ويتجرعون من الألم الذي يرافق تفاصيل عمرنا وسنوات حياتنا من الصباح حتى المساء.
النكبة عندما تضطر امرأة سورية أن تعيش في خيمة مع بناتها وتناضل في هذه الحياة وحدها، لا تعلم أي شيء عن زوجها بعد أن انقطع الاتصال معه بشكل كامل.
النكبة عندما نسمع ونشاهد كل هذه الأخبار يومياً على شاشات التلفزيون، وتمر كخبر عادي، فلا يتحرك لنا ساكن وكأن الأمر لا يعنينا، ولا نبادر لو بالقليل باسم الإنسانية التي تجمدت في عروقنا، وتفوقت عليها العصبية والطائفية والعنصرية، فأصبحنا أجزاء إنسان، نسمع ولا نعي ولا نفكر ولا نشعر ولا نهتم.
أيام ونستقبل رمضان، شهر الخير والرحمة والتغيير، عله يكون هذا العام فرصة لنقف وقفة محاسبة ومراجعة لأنفسنا، ماذا قدمنا، ما هو دورنا في الحياة.
هل أتينا إلى الدنيا لنأكل ونشرب وننام ونتزوج، أم لنعمر الأرض ونمارس إنسانيتنا كاملة ونضيء شموعاً من الأمل والإيجابية في نفوس من أنهكتهم الظروف.
على أمل أن تتحول النكبة إلى فجر باسم ممزوج باليقين أن الحق حتماً عائد إلى أصحابه.
وأنهي بقول لنيلسون مانديلا: "ليس حراً من يهان أمامه إنسان ولا يشعر بالإهانة".